في قراءته الشعرية لقصيدة “الماء”.. الصبّاغ: نصٌّ خلاق تمتزج فيه المعالجة الإبداعية بمنظومة القيم الحسينية


يقدم الأستاذ حسين الصباغ رؤية نقدية أنيقة لقصيدة (على لسان الماء) للشاعر ناصر زين الحائز على لقب شاعر الحسين للموسم العاشر (1439 هـ) عبر أسطر مقالته المميزة التي يرى فيها أن قصيدة الماء – كما يحلو له تسميتها – تنضح بسمات إبداعية ناهضة قوامها الرمز والصورة والإيقاع الجاذب والوجدانية العالية، لكنها لا تقف عند هذا الحدّ وإلا كانت مجرد إعادة إنتاج للواقع، بل تتجاوزه إلى تخوم دلالية ترتسم فيها “ملامح البطولة والمبدئية والانتصار للقيم والمبادئ” … نترككم مع متعة القراءة:


في قراءته الشعرية لقصيدة (على لسان الماء).. الصبّاغ:

 نصٌّ خلاّق تمتزج فيه المعالجة الإبداعية بمنظومة القيم الحسينية

مقال – حسين الصباغ:

ما أنا بناقد ولا أمتلك أدوات النقد ولا أحسن صناعتها، لكنني قلت على نحو الجزم وبمجرد أن استمعت الى قصيدة الشاعر ناصر زين إنها الأجدر بالفوز بالراية في مسابقة شاعر الحسين التي نظمتها البلاد القديم جريا على عادتها السنوية بمشاركة شعراء أفذاذ من مختلف الأقطار العربية..

قصيدة الماء كما أختصرها، وهي قصيدة (على لسان الماء) كما  ورد اسمها، كانت مشروعا شعريا بكل ما للكلمة من معنى وبمختلف دلالته في المبنى، قصيدة رغم رمزيتها الناهضة وشاعريتها الرائعة وموسيقاها الجاذبة، مع جميع ذلك فإنها عالجت المشاعر والأفكار والقيم؛ لتدق أسوار السلوك الإنساني، وتلج في آفاق توظيف كربلاء في جميع أبعاد الحاضر دون أن تجرّ القصيدة بهيئتها أو مفرداتها أو تسلسلها إلى الصياغات التوجيهية المستهلكة والمتكررة.

أدب خاص.. ذلك الذي رسمه الشاعر الفذ ناصر زين، ولا أجدني مبالغا لو قلت إن الرجل مدرسة تنتفض ضد الكثير مما مللناه من إسهاب أو تكرار أو إعادة أو محاكاة.

القصائد الأخرى في الأغلب، رغم شاعريتها العالية ووجدانيتها المعبرة وأساليبها الإبداعية والمبتكرة، لا تتجاوز أن تكون إعادة تصوير للوقائع والأحداث والمرويات بمفردات أخرى أو ألفاظ جديدة.

قد يكون مما ميز قصيدة ناصر أنها جمعت بين حُسنيين؛ معالجة في قمة البراعة والإبداع للصور المطلوبة والوقائع المفجعة، وفي الوقت نفسه تتحرك أسطرها على الأرض من زاوية السكون  لترسم ملامح البطولة والمبدئية والانتصار للقيم والمبادئ التي احتضنتها نهضة الحسين.

كانت جديرة بأن تكون مَا باحَ بهِ المَاءُ بعدَ أربعةَ عَشرَ قَرنًا مِنْ مَسِيرةِ النَّحرِ والنَّهر.. كما قدمها المبدع ناصر..

مُذ جَاءَ يَرسمُ للحقيقةِ مِحوَرا
كانَ الزّمَانُ مُمَزَّقًا .. 
فَتَشَجَّرا

قد جَاءَ يَفْرشُ للسَّنَابكِ جَبْهَةً  
سَالَتْ عَلى كفِّ المَلائكِ
مِنْبَرا  

وبِلَوْنهِ اغْتَسَلَ الفُراتُ ..
مُوَزِّعًا جُرْحَ الإلهِ
عَلَى المَدائنِ والقُرَى

يَمْشِيْ ..
وأَنْهَارُ المَشِيئةِ خَلْفَهُ تَمْشِيْ،
وَلَوْنُ القَاتِلينَ تَقَهْقَرَا

وكان اختيار الماء موفقا لأسباب وعلل شتى.. أبرزها سمة الحياة الملازمة للحسين وللماء.. فبهما لا دونهما كل شيء حي.. في مختلف الدهور وعلى مدى الأزمان..

قَدْ جَاءَ مِنْ أَقْصَى القَدَاسَةِ
نَازِفًا
مِنْ أيِّ جُرْحٍ فِيْ الإِبَاءِ تَكَوَّرَا؟!

يَخْطوْ،
تُرَافقُهُ الدُّهُورُ،
فَتَنْحَنِيْ كُلُّ المَوَاسِمِ
والشَّوَاطِئِ
والذُّرَى
فَمَضى ..
ومَا رَكِبَ الفُراتَ (مُغَاضِبًا)
لَمْ يَبْتَلِعهُ المَوْتُ
لَمَّا أَبْحَرا

َكان للنص القرآني حضوره المثير للمعاني المشتركة أو المتساوقة بين الآيات والأسطر الشعرية، سواء حين استعان بقوله تعالى في سورة يس “وجاء من أقصى المدينة” (القداسة)، أو في استعانته برمزية قميص يوسف النبي ليشير عبرها إلى الأثر الخفي لتراث الحسين، والبعد الغيبي فيه..

بِقَمِيْصِهِ (جِبْرِيلُ) يَدْفعُ أَسْهُمًا
يُلْقِيهِ فِيْ عَينِ الجِهَاتِ ..
لتُبْصِرَا
فَفَرَشْتُ مِرآةَ الإِلَهِ بِصَدْرهِ
حَتَّى أَرى مِنْ غَيْبِهِ
مَا لا يُرَى
فَرَأيتُ أَرْوَاحًا،
خُلُودًا،
جَنَّةً،
رَبَّاً،
مَرايَا الأَنْبِياءِ،
ومَحْشَرا

وكانت الرسالية المستقاة من نهضة الحسين حاضرة، تارة متخفية وأخرى صادعة.. كقوله:

مِنْ رَأسِهِ المَقْطُوعِ
أَلْفُ حَدِيْقَةٍ
هَطَلَتْ عَلى جَدبِ السِنِينِ ..
فَأَثْمَرا
وتَفجَّرَتْ فِيهِ القِيَامةُ،
نَهرُها فِيْ ثَغْرِهِ
يَهَبُ النَّهارَ تَفَجُّرا

فحَمَلْتُ عَرشًا ثائرًا
مِنْ كَفِّهِ
مَا كَانَ هَذا العَرشُ إِلا (خُنْصُرَا)
يَخْضَرُّ،
يَعْتَصرُ الشَّهَادَةَ،
يَنْتَشِيْ،
وَيُحَرّضُ الأَوْطَانَ
أَنْ تَتَطَهّرَا

وهكذا تحضر هموم الحاضر وآلامه كامتداد لألم تلك الفاجعة الخالدة لتكون إيقاظا للناس على طريق رسالية الحسين..

فَبِدَمْعِهِ اعْتَصَمَ العِراقُ،
تَوَضَّأَتْ سُحُبُ الحِجَازِ،
وأَحْرَمَتْ (أُمُّ القُرَى)

ونَمتْ شُعُوْبُ المَاءِ
عِندَ جِراحِهِ
هَلْ كَانَ نَحرُ المَاءِ (حَجَّاً أَكْبَرا)؟!

بَلَّلتُ ذَاكِرةَ البَياَضِ
بِنَظرةٍ عَطْشَى،
فَأبْصِرتُ العُرُوْجَ الأَحْمَرا

لا شَيءَ يَعْرجُ للسَّمَاءِ
سِوى دَمٍ
سَكبَ الحَيَاةَ
عَلى المَمَاتِ ..
وَأَمْطَرا !!!

فجدير أن يُبكى الحسين عليه السلام على طريقة ناصر، أَو فالأجدر أن لا يُبكى.