مقال (كريم رضي): رحلة القصيدة من الشعر إلى المسرح (شاعر الحسين 11 نموذجا)

يرصد الكاتب والشاعر البحريني (كريم رضي) في هذه المقالة بدايات تشكّل ظاهرة تكوينية جديدة في الأدب الحسيني المعاصر، تتمثل في تحرر النص الشعري من ربقة الصوت الواحد وعبوره إلى تعدد الأصوات عبر تقنيات مسرحة النص (عتبة النص، الراوي، المونولوج، الثيمة، إلخ)، ومن ثَمّ الولوج به إلى فضاء السرد، حيث تتصادى أصوات الشخصيات.

وإذا لم يكن المسرح الشعري حدثاً فنياً جديداً – بحدّ ذاته – في المشهد الشعري العاشورائي فإن الجديد على هذا الصعيد هو تأثيث مسرح النص وإضاءته من زاوية رؤية غير اعتيادية يسندها الشاعر إلى راوٍ يطفح بالشر في الذاكرة الجمعية الشيعية مثل (يزيد بن معاوية، حرملة بن كاهل) لدى الشاعرين سجاد السلمي وناصر زين، أو غير إيجابية – في أدنى وصف – مثل شخصية (حميد بن مسلم) كما رسمتها قصيدة الشاعر علي المؤلف.

المقال تأمّلي وشائق … نترككم مع متعة القراءة:


رحلة القصيدة من الشعر إلى المسرح ..
مهرجان شاعر الحسين النسخة ١١ نموذجاً

قصائد تعيد قراءة الميثولوجيا من جديد .. عندما نؤنسن القتلة

كسرت قصائد مهرجان شاعر الحسين في نسخته رقم (١١) النمطية السائدة في قراءة الملحمة الحسينية وانتقلت من نمطية الخير والشر المطلقين إلى الدراما وتعدد الأصوات، وذلك عبر إبراز صوت القتلة المنبوذين سابقا لنحصل على نص يتحدث بلسان القاتل وليس فقط بلسان القتيل.

اتجاه لم يبدأ اليوم فقبل هذه النسخة في نسخة سابقة تجرأ شاعر اسمه (سجاد السلمي) بأن يكتب القصيدة بلسان يزيد بن معاوية نفسه وفازت يومها بالمركز الأول، وهذه المرة جاء (ناصر زين) الفائز بالمركز الأول في هذه النسخة ليجعل نصه ناطقا باسم حرملة بن كاهل الأسدي وهو أحد رماة الجيش الأموي وقاتل الأطفال الأشهر في الميثولوجيا الكربلائية، بينما جعل (علي المؤلف) حامل المركز الثاني قصيدته على لسان الراوية الأموي حميد بن مسلم.

وقد وجدنا كلا من الشعراء الثلاثة يبدأ قصيدته بمقدمة مسرحية وهي تقنية تعبر بجلاء عن حقيقة أنك عبر المسرح فقط تستطيع أن تكسر أحادية النص الشعري وخطيته، إذ لا شيء كالمسرح يمكنه أن يمنح الشرّ صوتا ومساحة عادلة بقدر ما يمنح الخير مثلهما، فما يهم المسرح هو أساسا الدراما، فالمسرح عادة ديمقراطي بينما الشعر عادة مستبد.

وإذا كانت القضايا المحسومة دينيا وتاريخيا مثل الملحمة الحسينية تفتقر حكما في الشعر إلى إمكانية الإصغاء إلى غير البطل الإيجابي؛ وذلك بسبب حسم الموقف أخلاقيا مع أو ضد هذا المعسكر أو ذاك بشكل مسبق قبل الولوج إلى كتابة النص أصلا، فإن الشعراء الثلاثة – وهم سجاد السلمي وعلي المؤلف وناصر زين – قد احتالوا على هذه الحتمية القاهرة بأن جعلوا حوار هذه الشخصيات المنبوذة عادة في وجدان المتلقي، جعلوه مصاغا بتقنية الحوار الذاتي (المونولوج) بدلاً من الحوار الغيري (الديالوج)، وهكذا ليكون الصراع بين الخير والشر ليس أفقيا بين معسكر وآخر فقط لكن داخل كل شخص أيضا وهو تحول مهم جدا.

ومع أنه ليس من السهل في مهرجان أدبي قائم على الغرض الديني أساسا أن تجرؤ على أن تتحدث بصوت الشيطان ومن يفترض أنه ملعون دون مواربة، ولو أن هذا حدث سابقا في المسرح الحديث غير الديني مثل مسرحية (الجوشن) للشاعر عبد الرزاق عبد الواحد والتي كانت بطولتها لشخصية الشمر نفسه، إلا أن هؤلاء الشعراء الثلاثة على الأقل، وربما هناك سواهم جرؤوا على هذه التقنية التي تنقل الشعر من الميلودراما إلى الدراما، ولعلنا نشهد فعلا بروز اتجاه يعطي الأهمية للفن بمقدار أهمية الموضوع.

وإن كان لا بدّ من تبرير عقدي أو فلسفي لهذا التحول الجديد لقلنا إن تحرير المجرم أو الطاغية من نفسه والبحث عن إيقاظ الإنسان الجواني داخله ليواجه شره بنفسه في مونولوج مشحون بالتيه والأسئلة واللايقين، هو مهمة الضحايا أيضا.

أن يقتل القتيل قاتله لا بسيف أو رصاصة، بل بأن يوقظ ضميره فيه ليجعله صوتا حيا و حارا في صحراء العدم الهائل، تلك هي غاية النص أو لنقل تلك هي قصيدة القصيدة.