التعليق النقدي للجنة القراءة النقدية (فئة القصيدة التراثية)
تقديم: الأستاذ جاسم المشرّف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد للهِ الرحمن، علَّم القرآنَ، خَلَقَ الإنسانَ، علَّمهُ البيانَ، وصلى الله وسلَّمَ على سادة الفصاحة والبيان محمدٍ وآله الطيبين الطاهرين.
الحسين ذلك الحيُّ الذي لا يموت، الذي قدَّم كُلَّ شيء للحي الذي لا يموت، فوهبه الله من بهائه بهاءً، ومن جلالهِ جلالاً، ومن جماله جمالاً، وجعلَ ذِكرَهُ كَذِكره عبادةً، فأضحى ككِتابه المنزل، وهو عِدله وترجمانه، لا تزيده كثرة التلاوة والذكر والترداد إلا تجدداً وطراوة، اسمٌ له من طنين الجرس، ورنين الإيقاع، ونفاذ التأثير ما لم يكن لغيره في الأولين والآخرين إلى قيام يوم الدين.
قراءة أي قصيدة هي عملية انتقال من فضائك اللغوي المألوف إلى فضاء مغاير، بمعنى أن تنظر للحياة من نافذة أخرى، من زاوية مغايرة، والفن كما يقول هيجل: “يساعدنا على رؤية ما لا يرى”.
الشعر نسيج متداخل من العواطف والأحاسيس والأفكار والتجارب والمؤثرات.
الشعر ذلك الصوت العميق الذي يتجلى فيه التاريخ والحضارة، وتتحفز الرؤية لأن تتبدى من خلاله.
النص يأخذ المتلقي إلى فضاءات لم يعهدها، ويكشف عن مضمرات التاريخ والحضارة.
شروط الاستمرار في الكتابة الأدبية كشروط الاستمرار في الحياة، لا بد من استمرار المدد. والتأمل العميق هو ما ينضج التجربة أدبياً
وبعد إعمال لجنة التحكيم المكونة من سعادة الدكتور حسين أحمد سلمان، وسعادة الدكتور جعفر آل طوق، ومُحدِّثُكم لأدواتهم النقدية خرج كلُّ على حِده بأهم النصوص اللافتة، والتي اخترنا لكم منها هذه النصوص الثلاثة.
قصيدة (ما تناثرَ مِنْ ناي الخُلُود)
[للشاعر محمد منصور اليوسف]
تعليق الدكتور حسين أحمد سلمان
تحليل العنوان:
يتكوّن العنوان من خمس كلمات، يتوسطها حرفُ جر يربط بين ( ما تناثر)، وبين (ناي الخلود)، وتحيل دلاليًا إلى أن هناك جزءاً يتناثر من الكلِّ. والكل كبير وشاسع لا يمكن تحديده وهو الخلود، وما تناثر هو الجزء الذي يأتينا من ذلك الكل. فما تناثر يفيد هنا ما استطاع الشاعر أن يتوصل إليه ويوصِله من أخبار ووقائع ومشاعر ومواقف وتفاعلات وجدانية، والناي واسطة بين الكل والجزء، وهو رمز إلى اللحن، واللحن بدوره رمز لكل ما هو مشحون بالحزن على الحسين.
أما الخلود فهو رمز لشخصه وسيرته، وهو ما نلمسه خلال قراءتنا للقصيدة،
الوزن العروضي:
نظم الشاعر قصيدته في البحر البسيط التام المخبون، ويتمثل مفتاحه في (مُسْتَفْعِلُنْ فَاْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُن)، وهو من البحور الثلاثة التي يتواتر استعمالها على ألسنة الشعراء في مختلف العصور، وهي: (الطويل، والبسيط، والكامل) وذلك لنفَسها الطويل، وموسيقاها الراقصة البديعة، التي تذكي الحماسة في أعماق وجدان السامع.
ومن ناحية الروي فقد اختار الشاعر التاء المكسورة التي منحت القصيدة سلاسة وعذوبة.
البحر البسيط والروي بحركته المكسورة، له أثره الواضح في قصائد شعراء الطف مما جعلهم يحافظون عليهما. ويلتزونهما في رثاء الإمام أبي عبد الله الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.
اللّغة:
وجدنا النص متسقًا ومنسجمًا، ولا يعاني صاحبه من فتور في السبك، أو التباس في المعنى، أو ارتباك في التعبير، أو ترجرج في التركيب. مثال على ذلك اللفتة النحوية الواعية من الشاعر في البيت السادس:
وسَحْنةُ (العشْرُ) قد ألقت حقائبَها مِلءَ الفجائع في أرجاء ذاكرتي
فقد رفع كلمة (العشر) بالضمة على الحكاية؛ كونها غدت عَلمًا على العشر الأولى من شهر محرّم الحرام، أي إرادة العشر، ووضعه لها بين قوسين يشي بذلك.
المعجم الدّال:
– بدأت القصيدة بتقديم صورة اليتامى وحالهم الباعثة على الحزن، هذا المشهد منح القوة للقصيدة، والمعجم الدال على اليتم، مثل: (الذعر، اليتم، الثكل،…
– خرجت القصيدة عن القاموس المألوف، وابتعدت بذلك عن الابتذال، فجاءت المعاني والصور واضحة وممتعة في نفس الآن. والجديد في هذا النص هو استهلاله بالذات (ذات الشاعر)، نحو قوله في الأبيات الأولى:
– مثل اليتامى بَـــذرْتُ الحزنَ في رئتي وأترع َ الصّــــبرُ مِنّي كلَّ سنبلةٍ
– ولم تزل شفرةُ الأيام تحصد في حقل المراثي التي قد خَضَّرَتْ شفتي
– آتٍ منَ الموت، ناي الريح يبعثني ولسْتُ من حينها حيًّا، ولم أمُتِ
وهكذا تسير القصيدة على هذا النحو.
الصّورة الشّعريّة:
إنّ الصور الشعرية هي التي تكسب الشعر أدبيته وشعريته، وترقى به عن النظم، وتسمو به عن الكلام العادي، بتضافرها مع الأفكار والمضامين، واللغة والوزن وتوظيف المشاعر. وقد توصلنا عند دراستنا للصور الشعرية في هذه القصيدة، إلى أنها تتسم بالعذوبة، والجمال، وذلك يعود إلى اعتماد الشاعر على المحسنات البديعية، والبيانية، والأساليب البلاغية وبخاصة الاستعارة.
كقوله في البيت الرابع:
– عقرْتُ ناقة تصريحي، ولُذْتُ على ذعري إلى ظلِّ إيماءٍ وتوريةِ
الملاحَظ أن الشاعر قد نجح في تشكيل هذه الصورة الرائعة من خلال توليد المعاني، إذ عقد التصريح، ولجأ إلى الإيماء والتورية، وهذا ربط موفّق بين علمي البيان والبديع. ونلمس كذلك جمال الصورة، التي توحي بأنه قد جعل مخيلته فضاءً لتثبيت سلالم جرح؛ إذ يقول في عجز البيت الخامس:
فوثبةُ الخطبِ قد جازت بلوعتِها أقصى سلالمِ جرحٍ في مخيلتي
كما أنّ (العشر) في البيت السادس تلقي حقائبها في قوله:
وسَحْنةُ (العشرُ) قد ألقت حقائبّها ملء الفجائع في أرجاء ذاكرتي
وعند حديثه عن أنصار الإمام الحسين (ع) وكيف أنهم أدركوا مفهوم الحرية بطريقتهم الخاصة، حيث تسابقوا للمنايا، نحو قوله في البيتين ( 8و9):
أنصارُهُ أشرقوا من فرط ما اشتعلُوا في عِشقِهم، ورقوا معراجَ أُمنِيةِ
تســـــــــــــابقوا للمنايــــــــــا كـــــــي تُحرِّرهم مِــــــــــــنَ التراب لغايات مُبتَّلة
وبعد وصف كربلاء في عدد من الأبيات يعود ثانية إلى ذاته عن طريق التدوير؛ إذ بدأ بالذات، وانتهى بالذات، فالرؤية واضحة تمامًا لدى الشاعر نحو قوله في البيت (26):
وهنا أتيتُ أُمنِّي النصَّ ملحمةً كم فطَّرت مِنْ أساها مُهجة الّلغة
إنّ هذه الملحمة قد فطّرت مهجة اللغة، …
لقد نوع الشاعر في أساليبه البلاغية، واعتمد كثيرًا على الاستعارات، التي أعطت قوة وجمالًا للصور الشعرية، وبما أنه بصدد نقل وقائع ما زالت حيّة في ضمير التاريخ، فقد تراوحت الجمل، التي استعملها بين الاسمية والفعلية، وركز على الجمل الخبرية، ماعدا جملتين في البيت (12):
(تسائل الريح: هل من ناصر؟
والبيت (20):
(أين الرجال)؟ فإنهما جملتان إنشائيتان.
نص ” اعتراف “
[للشاعر حسين عيسى الستري]
تعليق: الدكتور جعفر آل طوق
لقد ساهم الأدب والشّعر خاصةً في تسجيل وتوثيق نطاق القتال وما جرى، أو رثاء شهداء المعركة إذ جسّدها أدبياً بما يُعرفُ بفنّ الرِّثاء للإمام الحسين (ع) وأصحابه وما جرى لأهل بيت النبوّة (عليهمُ السّلامُ). فكانت مساهمة الشعّر في نطاق تسجيله للمعركة ورثاء شهدائها عن طريق شخصيات عاصرت المعركة إذ ترتّبَتْ بخصوصها ردودُ أفعالٍ مؤلمة.
فكيف إذا جاء الاعتراف من العدو نفسه.
ـ حرارة العاطفة لدى الشّاعر ألزمته الدخول في موضوع النصّ بلا مقدمات، حيثُ بدأ الشّاعرُ مجمل أبياته بجملٍ فعليّة مُباشرة أفعالها ماضية أفادت الحدوث فيا مضى من الزمن. ومن أمثلةِ ذلك قوله في الأبيات الثلاثة الأولى:( وصلنا بوادي الطفِّ، وكُنّا أُلُوفاً، منعنا الماءَ) وهو اعتراف تراتبي صادق بما فعلَ؛ لذا نجد الربط المحكم والتوافق التام بين العنوان وتجليات القصيدة.
كما أنّ هذا النّص الذي جاء بعنوان: ” اعتراف” نجدُ أنه اكتنز بأهمّ عنصرٍ فنيّ وهو الإحكام في صياغة التركيب اللغوي من حيثُ العبارة واللفظ. في الغالب العام، واستخدام الضمير الفاعل والمؤثر، وامتاز أيضاً في صوره وتشبيهاته الكثيرة المنسابة في ثنايا النّص، ومثاله: (فسلَّ لنا العبّاسُ برقاً، قطعتا كفوف الفضل، وعالجَ رمحاً ناقعاً جاهليةً، فطفناه سبعاً، فصارَ هِلالاً غارقاً، وغيرها من الاستعارات اللينة والبعيدة عن الغرابة والتعقيد، ولا يكاد بيتاً من أبيات القصيدة يخلو من صورة فنيّة على تفاوتها صعوداً وهبوطاً.
فالنصُّ عبارة عن صورة يتأمّلها المتلقي كما يتأمّلُ الحادثة ماثلة أمام عينيه.
من حيثُ الإيقاع:
النصّ: من البحر الطويل، وسُمّي بالطويل لتمام أجزائه ولا يأتي إلاّ تاماً ومن مميزاته النفس الطويل من الشّاعر، والحماسة والقوة، وهذا ما ناسب النصّ إذ إنّه جاء على لسان العدو يُفصّلُ الحادثةَ باستخدام صيغةِ الجمعِ وتركيزِهِ على ضمير ” نا ” الفاعلين. وكان هذا الدّالُ ركيزةً أساسيةً بَنى الشّاعرُ من خلالِهِ مَضمُونَ النصّ الذي جاء سرداً حزيناً عبَّر عن الواقع آنذاك.
فالنّصُ اعتمد على العناصر اللافتة وهي العناصر اللفظية والصُّورية والإيقاعية المدوّية تجسيداً وتشخيصاً.
كما أننا لاحظنا بعض الألفاظ التي استخدمها الشاعرُ وهي تحتاجُ إلى تأنٍ قبل إثباتها. على سبيل المثال (استخدامه لكلمة أهوى في قوله: وقد أهوى إلى شِسْع نعله، والصحيح ” هوى”. وقوله في البيت الخامس عشر: ( ولمّا طَمَى بالسبطِ ما يفعلً الظَّمى ).
وفي العموم، النصّ جميلٌ امتَدَّ بامتداد الحالة النفسية الحزينة التي تختلج في نفس الشّاعر المتوقّدة في اللفظ والصورة والتركيب، فتقمّص شخصية من شخصيات الأعداء.
قصيدة (العابرون من بوابة الخلود)
[للشاعرة إيمان عبدالنبي دعبل]
قراءة: الأستاذ جاسم المشرَّف
للخلود بوابة لا يعبرها كل أحد، فما هي سماتُ العابرين من بوابة الخلود، ومن هم؟
هذا ما يحيلنا إليه عنوان هذه القصيدة: العابرون من بوابة الخلود.
من العنوان يفتح القارئ كشافه الدلالي للتعرف على هذه السمات، والأدوات الفنية المستخدمة للوصول لهذه الغاية.
للقصيدة بعدان:
. بُعدٌ دلالي، تم التأسيس له من العنوان، والمطلع الذي تفرعت منه القصيدة بنموها ووحدتها.
بُعدٌ أسلوبي فني يعمل على تجلية المعنى (الدلالة).
-
من سمات القصيدة: