عندما تبسّم الهلال

1- هلَّ الهلالُ مؤذناً لمحرمِ
بادٍ كثغرِ الضاحكِ المتبسمِ

2- فعجبتُ من هذا الهلالِ وأمرِهِ
ولِمَ التبسمُ في المصابِ الأعظمِ

3- فأجابني ضوءُ الهلالِ ونورُهُ الــــ
ــــمنسابُ مثلُ القطرِ فوقَ البرعمِ

4- هذي ظعونُ العاشقين توافدت
صوبَ الطفوفِ بشوقها المترنمِ

5- تمشي وتحفرُ في ترابِ دروبها
كالقيدِ يحفرُ رسمَهُ في المعصمِ

6- فانظر لهذا الرسمِ أصبحَ منهجاً
يمشيهِ كلُ مُولـّهٍ ومتـيّمِ

7- وانظر لبقعةِ كربلاء توسُّماً
فبها ستنظرُ آية َ المتوسمِ

8- وسلْ الحسينَ إذا وصلتَ ضريحهُ
ونزلتَ ضيفاً في عرينِ الضيغمِ

9- هل هذهِ الأرضُ التي لم تروِها
إلا زكاةُ النحرِ من فيضِ الدمِ

10- وأديمُها وترابُها وصخورُها
هي من بقايا صدرك َ المتهشمِ

11- هل هذهِ الأرض التي في حضنِها
تعلو الرماحُ برأسكَ المتعممِ

12- هل هذهِ الأرضُ التي من بأسها
فطموا رضيعكَ سيدي بالأسهمِ

13- هل هذهِ الأرضُ التي نيرانُها
لم تبقينَّ إليكَ أيَ مخيمِ

14- وإذا وقفتَ على المقامِ تفكراً
لتجولَ فيهِ بنظرةِ المستفهمِ

15- وقفَ الزمانُ بكربلاء مبجِّلاً
هذا الغريبُ الفاطميُ الهاشمي

16- يبلى الزمانُ وليس يبلى عشقُ منْ
قهرَ الزمانَ بعشقهِ المتقادمِ

17- فانظرْ لجدرانِ المقامِ كأنها
مبنيةٌ من صدرهِ المتحطمِ

18- وكأن ُشبّاكَ الضريحِ مُعتّــقٌ
ومُطرّزٌ من ثغرِهِ المُـتـثـلّمِ

19- والقبة ُ الصفراء فوقَ ضريحهِ
شمسٌ لقد وُضِعَتْ كفصِ الخاتمِ

20- وانظر منارَتهُ تُداعبُ كفُها
رأسَ الغيومِ السابحاتِ الهُـيَّمِ

21- إذ تستظلُ بها الحمائمُ رهبةً
من أن يظللُها جناحُ الهيثمِ

22- حتى المصابيحُ التي قد عُــلــِّــقت
فوقَ المقامِ تلألأت كالأنجمِ

23- ستقولُ يا عجبَ الزمانِ لكربلا
أوَلمْ تكوني الأمس مثلَ جهنمِ

24- هوذا الحسينُ فأين من ساروا لهُ
ما بين مختصمٍ وبين مُزَاهِمِ

25- فأجابني التاريخُ هاهم قد مضوا
ورفعتُ عنهم رايةَ المستسلمِ

26- عبدوا يزيدَ ومالَهُ ومقامَهُ
والعابدونَ لغيهِ المُتصنّمِ

27- مضتْ الجيوشُ وبُدِّدتْ أعدادُها
وقصورُهُ بتصدعٍ وتهدمِ

28- أين الثرى من جسمهِ ورميمهِ
أم منْ يجودُ بدمعةِ المترحمِ

29- قتلوا الحسينَ لعلهم لم يعلموا
وُلِدَ الحسينُ مجدداً بمحرمِ

30- هو فـُلْـكُ نوحٍ حينما قد علّقوا
آمالَهم سَفَهاً بركنِ الظالمِ

31- اليومَ أمرُ اللهِ حلَّ وما لهم
عن أمرهِ وعذابهِ من عاصمِ

32- ثارتْ دِماهُ كأنها بحرٌ وهم
غرقوا بلُجّةِ موجهِ المتلاطمِ

33- أبلاهم التاريخُ حتى أنهُ
فرعون موسى جسمُهُ لم يُعدَمِ

34- رأفَ الزمانُ بنا فما أبقى لهم
أثراً يحزُ بجرحنا المتألمِ

35- هوذا الحسينُ أراهُ حياً واقفاً
– وهو القتيلُ- على رفاتِ الظالمِ

36- هوذا الصراط ُ المستقيمُ ومنْ علـــ
ــــــيهِ يسيرُ بينَ مثبَّتٍ ومُدَمْدَمِ

37- والكوثرُ العذبُ الزلالُ ومن إلــــ
ـــــــيهِ يسيرُ بينَ مؤخَّرٍ ومُقدَّمِ

38- حسبوا بقتلِكَ نصرَهم وتوهّموا
ضحكَ الزمانُ لغفلةِ المتوهمِ

39- سقطَ القناعُ وبعدهُ أسطورةَ الـــ
ـــنصرِ المؤزرِ وهو محضُ مزاعمِ

40- أكذوبةَ النصرِ التي ليست سوى
نصرٍ تحقق في خيالِ الواهمِ

41- مرّت بمرفأِ كربلاءَ وأبحرت
سفنُ السنينِ بحزنِها المتراكمِ

42- واليومَ قد بزغَ الضياءُ لتنجلي
شمسُ الحقيقةِ بعدَ دهرٍ غائمِ

43- فاستيقظت كلُ الشعوبِ وشاهدت
يا كربلا لمن انتصارُكِ ينتمي

44- وقفت على أوهامهم كلُ الشعــــــ
ــــوبِ وخاطَبتهم يا عبيدَ الدرهمِ

45- اليومَ من عضَّ الأناملَ حسرةً
لا تنفعـنّـكَ عضـةُ المتندمِ

46- عجباً فإن القاتلينَ إليهِ قد
هُزِموا وإنّ قتيلهم لم يُهزمِ

47- الحقُ يُعلي أهلَهُ بسمائِهِ
والجُرمُ يُقبرُ فيهِ ذكرُ المجرمِ

48- كَلْمى تمرُ بيَ السنينُ وأمتطي
الأحلامَ دونَ عنانِها والألجمِ

49- وأجولُ في فَـلـَكِ الفجيعةِ سابحاً
كالعقلِ يسبحُ في فضاءِ الحالمِ

50- يومَ الحصادِ بعاشرٍ ماذا عسى
غيرَ الدموعِ حصادُها في موسمي

51- بكتْ العيونُ عليكَ فيضاً من دمٍ
والشيبُ أشرقَ بعدَ ليلٍ مظلمِ

52- وعجزتُ من حزني أبوحُ وأشتكي
فجعلتُ حسْراتي لسان َ تكلـُّـمي

53- ولقد رسمتُكَ والطفوفَ بلوحةٍ
ويدي بها عشقي وقلبي مرسمي

54- فأحلتُ رمضاء الطفوفِ جنائناً
وكسوتُ عاري جسمِكَ المتهشمِ

55- وجعلتُ ماءَ النهرِ ينبعُ دافقاً
من بينِ كفكَ كالرحيقِ البلسمِ

56- ونزعتُ أهدابي وفيكَ زرعتُها
ورداً بموقعِ نابتاتِ الأسهمِ

57- أرجعتُ خنصركَ التي بُتِرتْ وقد
طوّقتُها يا سيدي بالخاتمِ

58- ورويتُ طفلكَ سيدي ورسمتُ في
وجناتهِ إشراقةَ المتبسمِ

59- وجعلتُ نيران الخيامِ جنائناً
من وحي بابل صغتُها كالمعْـلـَمِ

60- وجعلتُ حولكَ منْ تشاءُ من الورى
فيها ابتداءً بالرسولِ الأكرمِ

61- ومسحتُ من أرضِ الفجيعةِ سيدي
كلَ الجيوشِ وكلَ عاتٍ مجرمِ

62- ورسمتُ أصحابَ الحسينِ تجمعوا
مثلَ السماءِ تزينت بالأنجمِ

63- وجعلتُ عباساً يجولُ برايةٍ
والكلُ مبتهجٌ بعرسِ القاسمِ

64- لكنْ عجزتُ بأن أواري وطأةَ الـــ
ـــشمرِ اللئيمِ على المقامِ الأحرمِ

65- يا مُلهمَ الأجيالِ وحْياً فارتقت
طرقَ السماءِ على براقِ المُــلهِـــم ِ

66- ومحّررَ الأجيالِ من أقيادها
وخنوعِها وركوعِها للغاشمِ

67- أيقظت أفئدةَ الورى من نومِها
دهراً بكهفِ الجهلِ دون تبرم ِ

68- وبعثتَ في موتى القلوب ِ تكرُّماً
روحَ الإباءِ بنحرِكَ المُـــتَكرّم ِ

69- يا منبعَ الحرية ِ الحمراءِ يا
كهفاً تلوذُ بهِ النحورُ وتحتمي

70- يا مرفأ الأحرارِ تلكَ مراكبُ الـ
ـــعشاقِ عندَ رصيفِ عشقِكَ ترتمي

71- أحسينُ يا عشقي الأصيلُ وإنني
عبدٌ إليكَ فأنتَ حقُ معلمي

72- علّمتني أنّ الكرامةَ تُشترى
بدمٍ لمن قد باعها بالدرهمِ

73- علمتني أن الدماءَ حضارةٌ
تبقى وصرحُ مُريقِها بتهدمِ

74- علمتني أنّ المناحرَ سيدي
جُعِلتْ كرامتُها بسيفِ الظالمِ

75- علمتني أنّ الرؤوسَ إذا اعتلت
رمحاً عَلَتْ فخراً رؤوسَ العالمِ

76- فلتعلم الدنيا بأن حضارتي
في كربلاء وعيدُها بمحرمِ

77- يا كعبةَ العشاقِ أنتَ حضارتي
أبداً وفيضُ دماكَ أمسى زمزمي

78- دمُكَ المدادُ وما رأيتُ حضارةً
أقلامُها كَتَبتْ بحبرٍ من دمِ

إناأنزلناه في ليلةالطف

حدثيني وأشعلي القلب نارا

واسكبي اللحن خاشعا موّارا

حدثيني فكل نبضة عشقٍ

في كياني تغازل الإنتظارا

وابعثي الليل موسماً غزليا

فعلى مقلتيك صلى السكارى

حدثيني عن كل شيء فإني

مغرم فيك لست أهوى اختصارا

كل همس يا سجدة الروح منكم

هو وحي يلهو بثغر العذارى

راقصي فيَّ نغمة الروح شوقاً

فبقلبي ثار الهوى واستطارا

لك للحب للهوى للأماني

للجمال القدسي رمت ادِّكارا

فأطلي حرفاً يعانق حرفاً

وشموساً تغازل الأقمارا

حدثيني فقد سئمت اغترابا

وبخطوي ماتت دروب الصحارى

عدت في موعد المواسم شعراً

لحنه داعب الهوى مزمارا

حدثيني قالت فحسبك فخرا

أن تناجي أئمة أطهارا

فتغافى على فم الدهر لحن

يبدع العشق في قلوب الحيارى

فأضأت الشموع ميلاد فجر

لحسين شف الهوى واستنارا

رَقَّصته يد البتول حناناً

وبطهر الوصي حاز الفخارا

هدهدته الأملاك في حجب

الغيب فلبت وأنشدت قيثارا

هو أنشودة الجمال عليها

وإليها تهفو قلوب الحيارى

هبطت باسمه الجلالة سكرى

ولمحرابه الكمال استدارا

وعذارى اللحون بَرَّحها الشوق

فأهدت باسم الحسين الشعارا

لكَ من نفحة البتولُ دلالٌ

ومنارٌ بل أنت خيرٌ منارا

ومن المرتضى تعلمت عزماً

للبطولاتِ صغتهن انتصارا

ومن المصطفى وحسبُكَ عزاً

واصطفاءً أن تُشبه المختارا

أنت من حجر فاطم وعلي

قد سكنت الخلد الإلهيَّ دارا

ومرجت البحرين درا وسحرا

قبساً يُشعل المدى إكبارا

عانقتك الأحلام في ألقِ الفجرِ

فكانت بشوقها أقدارا

والتراتيل مصحف علوي

للمعاني إذ صغتها أبكارا

يا إماماً من زاره زاره الله

فحقاً لطفِّه أن يزارا

يا وليدَ البيتِ المقدسِ قِدْماً

هو للحشرِ ذكره لن يوارى

وله في سما المعارج ذات

أيقظت من غرامها أسحارا

فمحاريبه التقى وصلاة العزم

فيه قد أبدعت أحرارا

يا غناء الأملاك ِ رتل علينا

من تسابيح وحيه أذكارا

وأدرْ كأسه المعتقَ فينا

فبخمرِ الولا أتينا سكارى

همسه همس أحمد وهواه

فاطميٌّ قد عانق الكرارا

قد تجلت يدُ اللطافة فيه

فتعالى فشاء لطفاً فصارا

(في علي أباً وفاطمَ أُماً

وأبيها جداً وجبريل) جارا

فحسين قد لون الطف مجداً

وعلى الأفق قد تراءى احمرارا

يا فماً راقص الخلود وغنى

للبطولات مصحفاً ومنارا

وتمشى مع الزمان هديراً

صاخباً يملأ الدُّنى إعصارا

وصهيل الخيولِ في كربلاه

كِسَفُ تمطرُ الجبان جمارا

وصداه موالُ آلهةِ الحبِّ

يصلي على الشفاه جهارا

وإباء الطفوف نبضٌ بقلبِ

الدهر ما انفك يبدع الأعمارا

فالحسين الدم المخبأ فينا

إن فيه بكل قلب مزارا

بقايا الباء

قدّستُ عندكَ فكرةَ العُظماءِ
فدَنَوتُ منكَ بخطوةِ استحياءِ

وسكبتُ كلّ الشعرِ فوقَ ملامحي
حتّى أمرّغَ بالبكاءِ بقائي

وتوضّأتْ بدمي القصيدةُ قُربةً
لكَ.. واستوتْ لصلاتها الحمراءِ

وطرقتُ باسمِكَ باب قلبي فانبرتْ
تسقي حروفكَ يا حسينُ دمائي

كنتُ انتهيتُ إلى ثراكَ معفّرا
بالفقدِ.. أبحثُ عن فقيدِ الماءِ

ظمآن مثلكَ والقوافي أدمنَتْ
هذا الجفافُ على فمِ الشعراءِ

كاللهفةِ العَطشى تحاولُ أن تضمّـ
ـكَ في جديبِ القفرِ والرمضاءِ

ملءَ اشتغالك بالضياءِ.. وماؤه
يتلو انتفاضَ مريئكَ الوضّاء

ما بين مائك والسماء وصورتي
نورٌ أُريقَ على يدِ الظلماء

يُبدي وضوحَ المُنزِلات على المدى
نَبَأ الندى ونداوةَ الإنباءِ

وجموحَ أسئلةٍ كأنَّ حروفَها
عَقَرَت جروحَ الأرض في أحشائي

مَن أنتَ؟.. يا ضوءَ الوجودِ ولا أرى
إلاك ضوءَ اللهِ في الأرجاءِ

مَن أنتَ؟.. يا مَن لمَّ روحيَ والسنا
يا سيّدي يا سيّدَ الشهداءِ

مَن أنتَ؟.. والضوءُ الجريحُ يقودُني
نحوَ الخلودِ على خُطى الهيجاءِِ

أمضي وهذا الدهرُ أقفرَ والرؤى
وكأنَّ كلّ الكونِ جاءَ ورائي

فأزحتَ عن مُقَلِ القلوب سَوادها
وجعلْتَها ترنو إلى العلياءِ

وجعلتني أدعو بكلِّ جوارحي
ومعي فؤادٌ مُثخَنٌ برجائي

ومعي اصطبارُ المتعبينَ السائريـ
ـنَ إليكَ في السرَّاءِ والضرَّاءِ

أيتامِ هاشمَ والسواكبِ أدمعًا
حَيرى تُبلِّلُ صفحةَ الصحراءِ

اللاطماتِ خدودَهُنَّ من الأسى
والباحثاتِ عن القريبِ النائي

الجاعلاتِ عُيونَهُنَّ منابعًا
تروي مُصابكَ في عيونِ الرائي

والسائراتِ من الطفوفِ إلى هنا
تترى من الآباء والأبناءِ

أدعوكَ أنتَ ولستُ أدرِكُ أنَّني
نفسي دَعوتُ وقد أجبتُ دعائي

يا سيِّدي من أنت؟ كلُّ حقيقتي
أني أرى عينَيكَ في أنحائي

أنِّي أراكَ وأنت تُسلِمُني يدي
كيما أصافحَ عِزّتي وإبائي

فكتبتَ ما أعطيتَني من فكرةٍ
عصماءَ ضِمنَ قصيدةٍ عصماءِ

وَلَقَد قصصتُ بكربلاءَ حكايةً
عمَّا جرى بالغدر والبغضاءِ

قَبَسُ الرضيعِ وَقَد أتمَّ شعاعَهُ
ألَقًا بصدر جريمةٍ نكراءِ

أمُّ المصائِبِ وَهجُها وَشموخُها
أختُ الشدائدِ زَينبُ النُّجباءِ

قَمَرٌ وَكفٌّ وانثيالُ أخوّةٍ
تَجري منَ العبّاس في البطحاءِ

عُرسٌ سَماويّ المحيّا.. فَرحةٌ
بتراءُ.. أرخَتْ دَمعةَ الزهراءِ

سبعون فجرًا قد تبلّجَ نورُهم
في ساعةٍ دَمويّةٍ هوجاءِ

وَالحُرُّ أدركَ.. والمدامعُ أَرهَقَتْ
وَجهَ الفُراتِ.. وآمنَتْ بِبُكاءِ

يا سيِّدي.. جرحُ الحقيقة نافرٌ
من إصبعٍ في الأسطرِ السَّوداءِ

مَدّوا عليهِ الملحَ وهْوَ مُقيّدٌ
بمَدَاهُ.. رَغمَ رَحابةِ الأشلاءِ

والصبرُ أودَعُهُ الهدوءَ فيحتفي
– يا للأسى – بِوديعةِ الحنّاءِ

وَالجوعُ أقبلَ وَالمكارمُ أدبَرَتْ
عَذراءَ مَرّتْ مُرّةَ الإغراءِ

كالصَّمتِ يَرغَبُ بالضجيجِ ودونَهُ
صَوتُ السرابِ على فمِ الحسناءِ

صِدقَ انتماءِ السائرينَ إلى الردى
هربًا من الدخلاءِ والطلقاءِ

بِفظاعَةِ التاريخ فرطُ حثالةٍ
تَطَأ النفوسَ بمقلةٍ عَمياءِ

يا سيِّدي هَبْني دواءكَ سرمدًا
فأنا احتضار العابثينَ بدائي

أشكو إليك الريحَ وَهْي تسوقُني
كالموتِ ملءَ ملامحِ البؤساءِ

أشكو الضياعَ وَصرختي مبتورةٌ
والخوف يملأُ بالشجى أشيائي

والنأيَ والحزنَ المقيمَ بخافقي
وقساوةَ الأمواتِ والأحياءِ

ومرارةَ الزمنِ الأخيرِ وغدرَهُ
وحفاوةَ النُّدماءِ بالأعداءِ

مَن لي سواكَ يزمُّ أطرافَ الصدى
يا موئلي وجوابَ كلّ نداءِ

مولاي تلك حدودُ قلبي لا أطيـ
ـقُ تحمّلا وكذا حدودُ بلائي

مولاي خُذْني.. لا إليكَ.. وإنما
لرحابِ عطفِكَ يا عظيم عطاءِ

خُذْني فهذا البؤسُ أطبَقَ وَالدجى
علّي أراكَ بليلةٍ قمراءِ

خُذْني إليكَ.. نَعَمْ.. إليك.. لأنَّني
أنا في الخيالِ أراكَ في إسرائي

مَطرُ الحنينِ وما تبقّى من دَمي
زُلفى لِحضنِكَ يا أبا الفقراءِ

يا حاءَ كلِّ الحبِّ أنتَ حكايتي
فامدُدْ يَدَيكَ.. أنا بَقايا البَاءِ

***

ذاكرة الرمال

سرْ يا فراتْ
سِرْ في هدوءِ العجزِ عن قصصٍ وأعذارٍ ترتّبُها الرمالْ ….
سِرْ حيثُ يجرحُ صمتُ أزمنةِ الغبارِ تعطشَ الموتى بأغصانِ الرماحْ
ويقطّر الخوفُ التذلّلَ في شفاهِ صغارِنا
نتوسّلُ الذكرى ونرمقُ آخرَ الأحلامِ لا يُرجى انفصالْ
أو حين تحرجُ صوتَك المبحوحَ أغنيةُ اليتامى في تفاصيلِ الزوالْ
كان الحسينُ ندىً لأروقة الصباحْ
هل كانَ شكّاً يا فراتْ
حتى يوثّقَهُ المماتْ
نهرٌ تولّى أو تعامى غير معنيٍّ بفاجعةِ النـزالْ
سِرْ يا فراتْ … سِرْ ثمّ ثُرْ
ثُرْ عن جراحِ الصمتِ
حينَ عيونُ أطفالٍ يخالجها الذبولْ
ومضتْ تراودُها الوعودْ
ثُرْ إنّ خوفَك يستبدُّ به الخلودْ
هذا أوانُك يُستَفَزُّ معادُهُ
فصفاءُ وجهِكَ لا يعودْ
ما لم تثُرْ
سِرْ لا تثرثرْ .. سِرْ وثُرْ
دعْ ما تخافُ من التعثّرِ في حطامِ الضوءِ
في ظلماتِ أمّتِنا العقيمةْ
للآنَ يغرينا القناعْ
للآنَ نسقيها دمانا وهي تسقينا الضياعْ
سِرْ يا فراتْ ….
سِرْ ثمّ ثُرْ
سترى حسينَ الله في عبراتِهِ
وترى ضميرَ الرملِ يحفرُ خطوَهُ
سترى بذاكرةِ الرمالِ تَحفّظَ الريحِ المُذيّلِ حزنُها
وجعاً تناسلَ في سنيِّ الخوفِ في رحمِ الذبولْ
سترى بأنّ اللهَ في أعدائِهِ
يبكي عليهِ وهو ينتزعُ الحقيقةَ من نقاءِ دموعهِ
هو ذاك سلطانُ الترقّبِ والتقرّبِ تلك آياتُ الوصولْ
فالحزنُ يبدأُ والدموعُ حكايةُ الكبتِ المرادِ له بأن يتوغـّلَ المعنى المسافرَ عن وجوهِ الناسِ حيثُ ملامحُ الأصنامِ تطبعُ في جبينِ الخوفِ ذلَّ الصمتِ في زمنٍ هجينْ
فأبيتَ يا ظلَّ الإلهِ خطى المتاهةِ في عيونِ الموتِ في نفقِ السوادْ
هو يومُ أنتَ خرجتَ وجهَ حقيقةٍ
يا منبعَ الهادي ويا استسقاءَهُ
فجّرتَ ينبوعَ التطهّرِ واصطفاءَ كواكبٍ للآنَ أوّلُها يضيءْ
للآنَ آخرُها انتظارُ اللهَ حين العدلُ كلُّ الأرضِ كلُّ العمرِ
كلُّ وجودِهِ
ليضيءَ في زمنٍ نبيٍّ ما تحاوله الفصولْ
فيزيحَ وجهَ الموتِ عن قدرٍ بريءْ
ولأنت ِ نفسُ محمّدٍ
يا معدنَ النفسِ النبيّةِ يا مذاقَ الطهرِ يا طعمَ الإلهْ
يا موطنَ الإرثِ المضيءِ على ترابِ الأمسِ حينَ اخضـّرَ وجهُ الموكلين إلى الحياةِ على ضفافِ الدمعِ أو نزفِ السماءْ
وعلى حضاراتٍ تكلَّفَتِ العناءْ
وعلى همومِ نهوضِها
فخلقتَ في طرقِ المنايا ألفَ نهجٍ للنقاءْ
كان المرادُ غصونَ لاهوتٍ تجذّرتِ السماءْ
فخرجتَ حتى يستقيمَ الضوءُ في فيءِ الإلهْ
ينبوعَ أضواءٍ أراكَ .. خصوبةَ النورِ .. امتدادَ العرشِ
حين اللوحُ ممتلئٌ بإشراقِ انتمائِكَ للعلا
هو ذاك يومُ الطفِّ كنتَ على انتشارِ جهاتِهِ متلألئا
فيضٌ يفيءُ ولا يبارحُ وجهَ هذي الأرض إلا باكتمالِ الضوءِ أو بسكينةِ المعنى وباستسلامِ آخر ذرةٍ لهبوبِ وجهِكَ حينها تـُستنطقُ البشرى
فوجهُ الأرضِ مرآةٌ ملامِحُها تقاطيعُ ابتساماتِ السماءْ
ولربّما عَرفَتْ بحزنِك حينها
فَمَضَتْ تعارضُها الدموعُ تجرّحتْ أبوابُها
وملوحةُ الأيامِ تسكنُها الجراحْ
فبكتْكَ أمطاراً دماءً حين موعدُها الهطولْ
سكتتْ وسرُّ الله يفشيهِ النواحْ
سكتتْ وروحُ الأرضِ دائمةُ البكاءْ
إذْ فجّرت ماءً يشقُّ إلى الحياةِ صفاءَ كوثرِك الحزينْ
هو ذاك جرحُ الله .. نزفُ العرشِ
لا الضلعُ المهشّمُ لا الجنينْ
فبأيِّ لوذٍ يستكينْ
والحزنُ يَثأَرُ والدموعُ حكايةٌ ..
لا ترتوي الأيامُ حتّى نبدأَ الأيامَ في معنى تَجَاوَزَه الأنينْ
لا أن نسيرَ نؤمّلُ الموتى مساحةَ قبرِهم
فلقد تصدّعَ وجهُ تأريخٍ تناولَ حزنَك المخبوءَ من حين لحينْ
لتمزّقَ الذكرى شرايينَ السنينْ
فيفيقُ من وجعٍ أنينْ
ويحيل ليل المتعبين إلى البعيدْ
خجلى هي الأيامُ كيفَ تمرُّ من وجعٍ إلى أفراحِ عيدْ ؟!!!
ثُرْ يا فرات
سترى بتكرارِ الإلهِ تشابهَ الآلامِ حين نصرُّ أن نتلو النـزيفَ على الطريقْ
سِرْ إن آخرَ ما نفكّرُ فيهِ في النارِ الحريقْ
ٍ

من المهد الى الخلد

وقطبـــًا تشيـــرُ البوصلاتُ إليـك مِن
فلســـتُ على علـــمٍ بغــــيرِك مُنهَـكاً
فتـولـَدُ والحــلاّجُ مـــازال غامــــــراً
كأن فقــاعات الطواســـين فوقـَــــــهُ
ولســتُ على علمٍ بغيرِك مُثخــــــــناً
فإنْ كنتَ من تحت الخيــول مُمزقــاً،
ورأسُك من فوق “الصلـيب” علامة
أشرتَ إلى النصرِ المـــؤزّرِ أن أجِبْ
وضـــمَّكَ حتى لفَّ أشــــلاكَ جبـــــة
ولستُ على علــمٍ بغيـــرِك فاديـــــــًا
ولستُ على علـــم بغيــــرك هامــــداً
ولستُ على علـــم بغيـــرك ظامئـــــًا
ولم أرَ نحراً غيرَ نحــرِك لـــم يـــزل
ولم يرَ عقلي بعـــد عمـــــقِ تدبّـــــرٍ
فمهما وجدتُ السعيَ نحـوَكَ شائكـــاً
أسيرُ على الأشــواكِ نحـــوكَ ناسيـاً
تَلـَــذ بيَ الآلامُ والنــــزفُ عنــــــدما
وإن حــالَ ما بيني وبينَك قاهـــــــــرٌ
وإن عــاد منـك المُتخَمـــــون بريّهم
ليُلقوا على وجهي “القميصَ” أشمّـــه
وأحبسُ في صـــدري هواكَ تنفـســاً

قريبٍ وقاصٍ تستشفـُّــك مقـصـــــدا
تحدّى غمـارَ الموتِ فانصـاعَ مَوْلدا
ودجلة يستجــدي من المَيْتِ موعـدا
بقايا غريقٍ ضـلَّ فيه وما اهتـــــدى
يشـدّ بكلتــا قبضتيــــه على الــردى
فأوصـــالك العنقــــاءُ تـأبى تَبَــــدُدا
تحيـلُ إلى العليــاء من رامَ ســـؤددا
فجاءك من خلفِ الســماءِ مؤيـــِّــدا
على طرفيها العزّ والمجــدُ نُضِّـــــدا
بقطــعِ نحـــورِ المستميتيــن يُفتـدى
يمـدّ القلــــــوبَ الهامـدات تجـــــدُدا
بــإروعَ سقـّـــــاءٍ ظـَــميٍّ تفــــــرَّدا
يضـخُّ بــأجداث النفــوس تمــــــرُدا
سواك مصيـــراً وانتماءً ومَرفَــــــدا
ودربــاً بحمّــــــام الدّمـــاءِ مُعبــــّـدا
نزيف جراحــــــاتي إليـــــك تـــودُدا
تَمدُ إليـها يــــا مسيـــحَ الهوى يــدا
وددتُ فلـــو أُنفى إليــك وأُطـــــــرَدا
ألــحُّ عليهم في الســؤالِ مُشــــــددا
فيُبصرُ طَرْفي بعدما كــان أرمــــــدا
شهيقــــاً أبى أنْ لا يعــود تنهُّــــــدا

عناقٌٌ في مطافِ الملائكة

(ارتباكٌ لسنبلةِ البكاءْ)

ذوَتِ الحُروفُ على الشِّفاهِ
وما ذَوَى لِلْحُزْنِ عهدُ

ستَدورُ ساقيةُ الأسى
ما دارَ شوقٌ مُستَبِدُّ

لِنُهدْهِدَ الذِّكرَى فَيورقَ
فِي الضَّميرِ هوىً ووَجدُ

ويفورُ في دَمِنا البُكاءُ
يديرُهُ قلقٌ وسهدٌ

بحِكايةٍ لَمْ يستَطِعْها
فِي فَمِ الأيَّام ِ سَرْدُ

النورُ محتدِمٌ وقَلبُ السّــ
ـبطِ للآمالِ يحدو

ويُعيدُ ترتيبَ الحَيــــــ
ــــــــاةِ بِتضْحِياتٍ لَاتُعدُّ

فيبُلّ روح المُتْعَبينَ
مِنَّ الظَّمَا لِيطِيبَ وِرْدُ

حجٌّ وترويةٌ بِها
في مَشْعَرِ الآجال قَصْدُ

مِنْ خَطْوِهِ انْبَجَسَ الهُدَى
وامْتدّ للتّوحِيدِ مَهدُ

وحَمائمُ الأشْواقِ إثــــ
ــــرَ رحيلهِ بالحزْنِ تشدُو

والكَعْبَةُ الحَوراءُ حَجَّ
لِخِدرِهَا شَرَفٌ ومَجْدُ

حتّى إِذا فرْضُ البُكــ
ـــاءِ أَتمّه ولَهٌ وبُعدُ

راحَت تسائِلُ قلبَها
أيُّ الجراحِ هو الأشدُّ

فَعلَى الفراتِ من الهُدى
عينٌ قد انْطفأتْ وزندُ

والجُودُ في كَتِفِ الِإباءِ
أَصَابَهُ بالسّهمِ حِقْدُ

كلّ الشفاهِ سنابلٌ
كانتْ لقُبْلتِه تُعَدّ

ظَمئِتْ فَسَمّرهَا على
طلَلِ السّقَا ألمٌ ووعدُ

لله نهرُ عذوبةٍ
ما نالهُ في الشوقِ بَردُ

….

أَحرمْتُ في لُجَجِ الأَسَى
جزْرٌ يُسافِرُ بي ومَدُّ

وَمعَ المثلث كم رحلتُ
لصمتِ ذاكرتي أقدّ

جُرحاً فَجُرحاً تخصفُ الـ
آلام بي فَيَضِيعُ رشدُ

ونَشَرْتُ أجْنِحةَ الوِصَالِ
إلى رَبيعِ الطَّفِّ أغدو

حيثُ الحسينُ لنبْضِهِ
لبّتْ ملائكةٌ وجُنْدُ

عَرَفوهُ مَحْضَ عذوبةٍ
فَإذا بِطَعمِ الموتِ شَهْدُ

كانوا يُمَاهونَ النّدى
بِإِبائِهمْ لِيُطِلّ وَرْدُ

سُرعانَ ما انْتَثَروا ومن
جِيدِ البطولةِ خرّ عِقدُ

( لبيكَ ) مِئْذَنةُ الجَمالِ
ونهرُ عِطرٍ لا يُحدُّ

رَحَلوا بأَعبَقِ فكرةٍ
منْها المَفَاخِرُ تُستَمدُّ

لا لمْ يموتوا كَيف يطــــ
ـــــوي الموتُ من يرجوهُ خُلْدُ

حزن الرمل

لا لون .. للكون .. ثوبَ الوردِ قد خلعا
لا زال يلبس حزنَ الرملِ مذ فُجعا

مذ غادرتُه طيورُ الحب ذاتَ دمٍ
لا زقزقاتٌ ولا همسٌ لهُ سُمعا

أجوسُ بين ديارِ الشكِ هل رحلوا ؟!
طفلٌ سؤالٌ صحا في مقلتي فَزِعا

وراحَ يبحثُ في الأشياءِ عن حُلُمٍ
فعادَ يحملُ ذنبَ الماءِ والجزعا

عن طفلةٍ، عن نهارٍ، عن مرمّلةٍ
عن مُقلةٍ جمرةٍ، عن دمعةٍ ودعا

يقال: أنّ قلوبَ الناسِ ما اتسعت
للحب مذ مُلئتْ كاساتُها جشعا

وأن وردَ النوايا لم يكن ألِقاً
بل كانَ كالشوكِ في أعمالهم بشعا

فجاء من آخرِ الأحلامِ مُدّرعٌ
بالأمنياتِ، بغير الحب ما ادّرعا

هو الحسينُ .. أعارَ الأرضَ بسمتَه
وهوَ الذي ابتكرَ البسمات واخترعا

فمنذ أنْ ظمئتْ أحلامُ فتيتهِ
قد علّمَ النهرَ أنْ يسعى لنا فسعى

وعلّمَ الشمس من أسرارِ طلعتهِ
معنى ضياءِ الهدى مذ رأسُه رُفعا

وجاءَ يسكبُ في أطفالنا فرحاً
مذ ذاقَ أطفالُه الويلات والهَلعا

ولم تقعْ فوقَ أرضِ الطف رايتُه
إلّا لأن يُمسكَ الإنسانَ أن يَقعا

نعى ولملمَ أفراحاً وبعثرها
وكنتُ أحزنَ أهلِ الأرض حين نعى

فحينَ كنتُ صغيراً، كنتُ أحملهُ
في لعبتي، في سريري عاشقاً ولعا

وكان نخلةَ شوقٍ في دمي غُرستْ
رغمَ الرياحِ بقى طوداً وما انشلعا

وكان ينظرُ في وجهي وأنظُرُهُ
حتى تشكّل في عينيَّ وانطبعا

أحسّه في دمي، في دمعِ والدتي
في كبرياءِ أبي، في الكلّ مندفعا

وحينَ يعصرني همٌّ أراهُ معي
فكمْ كِلانا تقاسمنا الهمومَ معا

أتيتُ أسكبُ أوجاعي على ورقي
فلمْ أرَ الوزنَ للأوجاعِ مُتسعا

قصائدي مُهجتي إن جئتَ تقرأه
بيتاً فبيتاً ترى من مُهجتي قِطعا

لا شيء في الكأسِ، كانتْ قهوتي وجعي
وكلّ ما أحتسيه الحزنَ والوجعا

لَكَ… مُنَاضِلاً كَوْنِيًّا

(1)
قَلَقٌ، وَصَمْتٌ مُطْبِقٌ، وقُبُورُ؟
مُتَصالِحُونَ مَعَ الدُّمُوعِ وَرَجْفِها
أمْ يَنْزِعُونَ مِنَ الظَّهِيرَةِ حَرَّها،

يَتَبادَلُونَ المَوتَ، يَبْتَكِرُونَه،
حَمَلُوا مَصائِرَهُمْ عَلَى أَكْتَافِهِمْ
فَتَناسَلَتْ أَصْدَاءُ حُرِّيَّاتِهِمْ
مُتَشَبِّثُونَ بِوَعْيِهِمْ، لَمْ يَقْبَلُوا
فِكْرٌ، يَغُوصُ بِهِ عَمِيقاً كُلُّ مَنْ
هُمْ أَبْدَعُوا صُوَرَ الوَفاءِ، وَكَوَّنُوا
نَذَرُوا النُّفُوسَ إِلَى الحَبِيبِ مُطِيعةً،
فَإِذَا اسْتَدَارَ الْاِنْحِرافُ كَصَخْرةٍ
وَعَلَى اليَبَاسِ انْسَابَ نَهْرُ إِبَائِهِمْ،
فِي كُلِّ سَطْرٍ لِلْحَنِينِ مَوَاكِبٌ
هُمْ هكَذَا الشُّهَدَاءُ حِينَ يَشِفُّهُمْ

(2)
يا سَيِّدِي عَنْ أَيِّ جُرْحٍ مُشْرَعٍ
هَلْ ثَمَّ مُتَّسَعٌ لِضَحْكَةِ (طِفْلَةٍ)
وَعَلَى الثَّرَى تَرَكَتْ جَبِيناً ناعِماً
جَسَدُ البِلادِ مُضَرَّجٌ بِدِمَائِهَا
وَالأُمَّهَاتُ مَدَامِعٌ مَرَّتْ هُنَا
وَاجُرْحَنا! فَدَمُ الضَّحَايا لَمْ يَزَلْ
فَلَذَاتُ أَكْبَادٍ تَعَاظَمَ نَزْفُها؛
لا شَيْءَ يَبْدُو فِي الفَرَاغِ سِوَى (يَدٍ)
نَذَرَتْهُ لِلْأَحْبابِ، وَالْتَمَسَتْ لَهُمْ

(3)
بِي مِنْ تُرابِ الأَرْضِ أَشْجَانٌ وَبِيْ
يَنْتَابُنِي رَوْعُ المَسافاتِ اْلَّتِي
وَيَكَادُ نِصْفِي أَنْ يُفَارِقَ نِصْفَهُ،
أَنَا قَدْ حَفَرْتُ عَلَى زَوَايَا غُرْبَتِيْ
وَأَتَيْتُ أَمْشِي مِنْ بَعِيدٍ حَامِلاً
لَيْتَ الغَرِيبَ وَقَدْ مَضَى عَن دَارِهِ
لَيتَ السَّمَاءَ تَنَامُ فِي عَيْنِي! فَذَا
رَأْسِي الَّذِي اشْتَعَلَ المَشِيْبُ بِهِ بَدَا
لِي أَنْ أفَتِّشَ فِي ثَنَايا الأَرْضِ عَنْ
لِي أَنْ أَمُدَّ إِلَى الغَرِيقِ قَصِيدَةً
بِحَقَائِبِي حُزْنِيْ الشَّهِيُّ وَقِصَّةٌ
وَلِزَعْفَرَانِ الذِّكْرَيَاتِ حَدَائِقٌ
مَأْهُولَةٌ هذِي الحَيَاةُ بِمَنْ مَضَوا
تَرْوِي لَنَا الأَيَّامُ أَلْفَ قِيامَةٍ
مَا لا يَعُودُ، يَعُودُ حِينَ تَقُولُ لِلـ

أَنَا يَا أَبَا الأَحْرَارِ جِئْتُكَ ظَامِئاً
بِرَشَاقَةِ الشُّهَدَاءِ تَهْطِلُ أَدْمُعِي
فِي البَذْلِ، فِي الإِخْلاصِ، فِي المُدُنِ التي
أَحْتاجُ مِنْكَ لِخَيْمَةٍ آوِي لَها
أَحْتَاجُ مِنكَ لِبَسْمَتَينِ وَمَرْفَأٍ
وَأَقَلُّ مِنْ جُرْحٍ بِصَدْرِ حَمَامَةٍ
أَدْرَكْتُ حُزْنَ العُشِّ حِينَ تُوَدِّعُ الْـ
مَنْ ذا يَشُدُّ عَلَى الجِراحِ ضِمادَةً
ويُصَبِّرُ الآبَاءَ لَوْ يَوماً هَوَتْ
جَسَدِي مَوَاوِيلُ الوَدَاعِ وَسَحْنَتِي
وَأَنَا انْهِمَارُ الذِّكْرَيَاتِ بِمَسْرَحٍ
أَوْمَأْتُ نَحْوَ ضِفَافِ نَهْرٍ مُتْعَبٍ
وَشَعَرْتُ أَنِّي زَوْرَقٌ مُتَحَطِّمٌ
دَمْعُ العُيُونِ عَلَيَّ يُلْقِي نَظْرَةً،
حَدَثٌ يُلِحُّ عَلَيَّ، حِينَ تَقَوَّسَتْ
يَتَوَقَّفُ اسْتِرسَالُ صَوْتِي، أَنْحَنِي،
سُبْحانَ مَنْ أَسْرَى بِدَمْعِي حَيْثُ لِلْـ

أَشْعِلْ سِراجَكَ؛ تَنْطَفِئْ آلامُنا
هَيَّأْتَ لِلْمَعْنَى خُلُوداً آخَراً،
أنَا شَاعِرٌ لَكَ عائِدٌ مِنْ مَوْتِهِ،
مِنْ فَرْطِ مَا أَلْهَمْتَنِي أَوْقَظْتَ فِــ
حَتَّى شَعَرْتُ بِأَنَّ أَجْرَاسَ الشُّعُو
ما زِلْتُ أَسْمَعُ صَوتَ أَجْمَلِ طِفْلَةٍ
وَيَقُولُ: يَا أَبَتِي (رُقَيَّتُكَ) الَّتِي
ما زِلْتُ أَقْرَأُ فِي مَلامِحِ (زَيْنَبٍ)
فِي كُلِّ لَيلٍ بِالوَدَاعِ مُبَلَّلٍ،
هِيَ عَالَمُ (العَبَّاسِ) فِي إِيثَارِهِ
هِي مَدُّ ثَوْرَتِكْ الَّتِي مَا بَارَحَتْ

(4)
يَا أَيُّهَا الوَطَنُ الحُسَينُ! مَعِي هُنَا
وَتُشَكِّلُ النَّاياتِ مِنْ قَصَبِ الرُّؤَى،
وَتُدِيرُ أَشْرِعَةَ الحَيَاةِ مُنَاضِلاً
أَنْتَ (المُدَجَّجُ بِالسَّلامِ) لِكُلِّ قُطْـ
يَا حَامِلاً إِنْضَاجَ رُؤْيَتِهِ إِلَى
ذِكْرَاكَ تَنْحَتُ -فِي اللُّغاتِ جَمِيعَها-
مَا لِلْعُيُونِ سِوَاكَ طَيْفاً آسِراً
مَنْفَى الحَياةُ، وَأَنْتَ وَحْدَكَ مَوْطِنٌ
يَا أيُّها الكَوْنِيُّ فِي أبْعادِهِ!

صَافَحْتُ مَاءَكَ، والعُرُوقُ تَلَهُّفٌ،
وعَلَى شِفَاهِ الغَيْمِ حُبُّكَ آيَةٌ
وهُناكَ حَيْثُ الرُّوحُ تَفْتَرِشُ المُنَى
أَقْصَى امْتِدَادِكَ لا حُدُودَ تَحُدُّهُ

يَا وَاحِدَ التَّارِيخِ! دَرْبُكَ وَاحِدٌ،
فَانْفُخْ (بِصَلْصَالِ الضَّمَائِرِ) مُلْهِماً؛
(دَاوُودُ) أَنْتَ، وذِي جِبَالٌ أَوَّبَتْ
وَلَكَ الطَّبِيعَةُ سُخِّرَتْ بِسَخائِها
أَمَّا القُلُوبُ فأنتَ (يُوسُفُها) الذي

إنَّا (حَوَارِيُّوكَ)، لَمْ نَحْتَجْ (لِمَا
إنَّا (حَوَارِيُّوكَ)، أَنْصارٌ إِذا
نَرْجُوكَ، عَلِّمْنا المَزِيدَ مِنْ العَطا
تَقْسُو الحَياةُ عَلَى بَنِيها تَارَةً،

عَيْنَاكَ فَلْسَفَتَانِ مِنْ عِشْقٍ، وَمِنْ
مِن أَجْلِ مُجْتَمَعِ السَّلامِ تَمُوتُ، بَلْ
فَمِنَ الحُقُوقِ زَرَعْتَ دَرْبَكَ سُنْبُلاً
بَعْضُ الشُّخُوصِ جَدِيرَةٌ بِخُلُودِها
حَرَّرْتَ أَنْتَ هَواءَنَا وَمِياهَنَا،
سُرْعَانَ مَا تَمْضِي فُصُولُ حَيَاتِنَا،
لَمْ تقترِبْ هذِي الحِكَايَةُ مِنْ نِها
بَينَ التَّمَنِّي وَالتَّمَنِّي بَذْرَةٌ،

أَمْ هَدْءَةٌ، وَسَكِينَةٌ، وَسُرُورُ؟
فِي الحَلْقِ، يَلْفَحُهُمْ هُناكَ زَفِيرُ؟
وَعَلَى ابْتِسامَتِهِمْ يَسِيلُ النُّورُ؟

وَلَهُمْ -وَإِنْ عَصَفَ الغِيابُ- حُضُورُ
لِيُعِيدَ تَضْمِيدَ المَصِيرِ مَصِيرُ
فِي كُلِّ صَوْتٍ حُلْمُهُ التَّحْرِيرُ
إلا بِما يَخْتَارُهُ (التَّفْكِيرُ)
لَمْ تُغْنِهِ مِمَّا يَراهُ قُشُورُ
ما لَمْ يُحِطْ بِحُدُودِهِ التَّصْوِيرُ
لِلْحُبِّ – يا اللهُ – ثَمَّ نُذُورُ
كَانُوا كَمَوْجِ البَحْرِ حِينَ يَثُورُ
وَوَرَاءَ إِبْدَاعِ الإِبَاءِ سُطُورُ
وَقَصَائِدٌ مَعَ مَنْ يَزُورُ تَزُورُ
مَاءٌ، وَفَجْرٌ مُشْرِقٌ، وَضَمِيرُ

أَحْكِي، وَجُرْحُ اليَاسَمِينِ غَزِيرُ؟
صَعَدْتْ إِلَيْكَ كَأَنَّها عُصْفُورُ؟…
غَضًّا بَكَاهُ (رَضِيعُكَ) المَغْدُورُ
وَالعُمْرُ -يَا عُمْرَ الزُّهُورِ- قَصِيرُ
وَأَزاهِرٌ مِنْها يَفُوحُ عَبِيرُ
يَغْلِي، وَأَحْزَانُ السَّمَاءِ تَمُورُ
فَأَعَادَ رَسْمَ الأُغْنِياتِ هَدِيرُ
تَرْبِيتُهَا وَحَنَانُهَا مَنْذُورُ
عُذْراً إِذا مِنْهُمْ بَدَا التَّقْصِيرُ

مِنْ كَرْبَلاءَ (فُرَاتُها) المَأْسُورُ
مِنْ قَبْلِ غايَتِها يَلُوحُ السُّورُ
عَظْمِي مَهِيضٌ، والجَنَاحُ كَسِيرُ
حُلُمِي، فَبَعْضُ الْاِغْتِرَابِ صُخُورُ
أَعْوَامَ عُمْرِي، وَالحَيَاةُ مَسِيْرُ
يَأْتِي! فَتُفْتَحُ كَالْقُلُوبِ الدُّورُ
بَصَرِي بِلا حُلُمِ السَّمَاءِ حَسِيرُ
عَصْراً تَنَامُ عَلَى يَدَيْهِ عُصُورُ
حُزْنِ الرِّمالِ، فَلِلرِّمالِ شُعُورُ
بِاسْمِ (الحُسَيْنِ) خِتَامُهَا مَمْهُورُ
تُحْيِيْ الشُّعُوبَ فَمَاؤُها (الإِكْسِيرُ)
فِي الرُّوحِ يَحْرُسُهَا الغَدُ المَنْظُورُ
مَاذَا أُسَمِّي الْمَوتَ يَا (دُسْتُورُ)؟
فَإِلَى الضَّحَايَا عَوْدَةٌ و(نُشُورُ)
تَّارِيخِ: صِرْ مُسْتَقْبَلاً! فَيَصِيرُ

وَ(النَّارُ) فِي لُغَةِ اللِّقَاءِ (نَمِيرُ)
(آياً) وَحُبُّكَ وَحْدَهُ التَّفْسِيرُ
آنَسْتَ وَحْشَتَهَا، فَأَنْتَ أَمِيرُ
إِنْ مَسَّنِي الإِبْعَادُ وَالتَّهْجِيرُ
أَنَا مِنْ بَقَايَا (الراحلينَ) جُذُورُ
بَيْضَاءَ، يَنْزِفُ جُرْحُها، وَيَغُورُ
أُمُّ الصِّغَارَ، وَقَلْبُها مَفْطُورُ
تَمْتَصُّ نَزْفَ الدَّمِّ حِينَ يَفُورُ؟
-غَدْراً- على وَجَعِ التُّرابِ بُدُورُ؟
لَحْنٌ حَزِينٌ وَالدُّمُوعُ (أَثِيرُ)
حَيٍّ بِهِ انْتُهِكَتْ إِلَيكَ خُدُورُ
تَرْنُو إِلَيهِ مَحَاجِرٌ وَثُغُورُ
وَمُسافِرٌ، قَدْ أَجَّلَتْهُ بُحُورُ
وَالدَّمْعُ بِالحُزْنِ الدَّفِينِ خَبِيرُ
في (كَربَلاءَ) مَعَ (الحُسَينِ) ظُهُورُ
أَبْكِي، وَيَغْلِي فِي دَمِيْ التَّنُّورُ
أَحزانِ فِي (أقصَى) السَّماءِ خَرِيرُ

يا مَنْبَعاً! لَمْ يَخْلُ مِنْهُ النُّورُ
أَثَّرْتَ فِيهِ، وَطَبْعُكَ التَّأْثِيرُ
وَإِلَى نَوَايَا الطَّيِّبِينَ (سَفِيرُ)
ـيَّ الصَّمْتَ، وَالصَّمْتُ الطَّوِيلُ مَرِيرُ
رِ تَرِنُّ إنْ وَارَى الشُّعُورَ شُعُورُ
فِي (الشَّامِ) يَحْكِي دَمْعُها المَنْثُورُ
رَحَلَتْ تُحِبُّكَ… وَالكَلامُ كَثِيرُ
صَبْراً سَخِيًّا، وَالمُصابُ كَبِيرُ
للهِ يَصْعَدُ سَعْيُها المَشْكُورُ
وَوَفَائِهِ، وَلَها يَقِلُّ نَظِيرُ
تَسْعَى لِعَدْلٍ، وَالزَّمانُ يَجُورُ

تَخْطُو؛ فَتُوْلَدُ مِنْ خُطَاكَ زُهُورُ
وَكَمَا الصَّبَاحِ عَلَى الوُجُودِ تَدُورُ
حُرّاً، لِنَهْضَتِهِ القُلُوبُ تُشِيرُ
ـرٍ خَانَهُ الإِرْهَابُ وَالتَّفْجِيرُ
لُغَةِ الحِوَارِ، خَصِيمُكَ التَّكْفِيرُ
أَحْلَى القَصَائِدِ، (فَاشْتِقَاقُكَ نُورُ)
مِنْ ظِلِّهِ يَتَشَكَّلُ (البَلُّورُ)
مُدَّتْ لَهُ -مِلْءَ الحَنِينِ- جُسُورُ
ما خانَنِي في حُبِّكَ التَّعْبِيرُ

فَعَلَى ضِفافِ العُمْرِ أَنْتَ غَدِيرُ
تُتْلَى، وَوَحْيُكَ كَالغُيُومِ مَطِيرُ
شَوْقاً لِقُبَّتِكَ الجِهَاتُ تَسِيرُ
فَالكَوْنُ دُونَكَ يَا حُسَيْنُ صَغِيرُ

مِنْ حَيْثُ تَبْدَأُ يَبْدَأُ التَّغْيِيرُ
لِتَحُومَ -فِي أُفُقِ الفِدَاءِ- طُيُورُ
إِيقَاعُها التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ
وعَلَيْكَ أُنْزِلَ في الطُّفُوفِ (زَبُورُ)
ما زالَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُ

ئِدَةٍ) لِنُؤْمِنَ، فَاليَقِينُ عُبُورُ
مَا عَزَّ عِنْدَ النَّائِباتِ نَصِيرُ
ءِ، فَفِي الحَياةِ مُشَرَّدٌ وَفَقِيرُ
لكِنَّكَ التَّفْرِيجُ، والتَّيْسِيرُ

فَنٍّ، لَهُ إِيحَاؤُهُ المَوْفُورُ
تَحْيَا، وَيَفْنَى الظُّلْمُ وَ(التَّطْهِيرُ)
وَإِلَى الحُقُوقِ عَطَاؤُكَ المَذْخُورُ
وَبِكَ الخُلُودُ أَيَا (حُسَينُ)! جَدِيرُ
فَخُطَاكَ يَسْكُنُ وَقْعَهَا التَّحْرِيرُ
لَكِنَّ فَصْلَكْ أَوَّلٌ، وَأَخِيرُ
يَتِها وَلَمْ يَنْفُذْ لَهَا الدَّيْجُورُ
وَإِلَى نِهايَاتِ الكَلامِ بُذُورُ

الحُسَينُ الآَخَرْ

جِدْ لي ابتداءً فيكَ حتى أَقْطَعَكْ
وافتحْ رؤايَ على رؤاكَ لأجْمَعَكْ

لا زلتَ تربِكُ أحرفيْ يا واحدًا
وزَّعْتَ مِنْ وَحْي المعاجِزِ مَصْرَعَكْ

وفقدتُّني حيثُ المَجَازُ يتيهُ بي
ما أضيقَ البوحَ الفصيحَ وأوسَعَكْ

أنا عابرٌ عِلِقَتْ بيَ الكلماتُ في
وَحْلِ الرؤى وأنا أحاوِلُ مَطْلَعَكْ

لُغَتي تُخَاصِمُني بدَرْبِكَ كُلَّمَا
أنويكَ أفقِدُها وأفقِدُ مَوْضِعَكْ

حيثُ القرابينُ التي فَصَّلْتَها
فضفاضةً كُلُّ الوجودِ تَشَبَّعَكْ

قاومتَ جُنْحَ الليلِ -مِثلُكَ لا يبا
يعُ مِثْلَهُ- وأضأتَ لمَّا قَطَّعَكْ

وُوُلِدْتَ مِنْ جُرْحٍ، فَطَمْتَ مِنَ الرَّدى
عُمُرًا بأرحامِ المَواسِمِ أودَعَكَ

قارعْتَ لونَ الزيفِ، نَقَّيْتَ المَدى
بدماكَ، كنتَ مُلَطَّخًا ما أَنْصَعَكْ!

مانَعْتَ أنْ تحيا على عُمُرٍ رما
دِيٍّ ولم تَلْوِ السُّيوفُ تمنُّعَكْ

آثرتَ أنْ تعطي بقاءً آخَرًا
وتَمُدَّ في عُمُرِ الحقيقةِ أفرُعَكْ

عالَجْتَ بالجرحِ الهُرَاءَ نزفتَ بالـ
معنى، شَغَلْتَ المَوْتَ والمَحْيا مَعَكْ

أربَكْتَ بالدمِّ الحسامَ، هزمتَهُ
وأرَعْتَهُ لكنَّهُ ما رَوَّعَكْ!

يا نصَّ هيهاتٍ ويا شِعْرَ الإبا
ءِ ويا انسكابَ الدَّمِّ لمَّا أسْجَعَكْ

فردًا شَقَقْتَ الجَمْعَ! حُزْتَ مِنَ الصوا
بِ تفرُّدًا ومِنَ الهدى ما وَزَّعَكْ!

متنزهًا عَنْ كلِّ معنىً عابثٍ
شَجَّ الحقيقةَ بالخيالِ ليخدَعَكْ

متمردًا فوقَ الرَّوَاسِبِ ناصِعًا
كالماءِ لا تَصِلُ الخرافةُ مَنْبَعَكْ

وحسينُ عَقْلِكَ لم تَسَعْكَ منابرُ الـ
خطباءِ لم يُرْبِكْ سرابٌ أشرُعَكْ

وأعَذْتَ نَجْمَكَ أنْ تُحَنِّطَ ليلةٌ
أضواءَهُ فَسَطَعْتَ كَيْ لا تَسْطَعَكْ

وغدوتَ بوصلةَ العُقُولِ، دعوتَها
لتسيرَ منكَ إليكَ حتى تبدِعَكْ!

متحررًا كالجرحِ لستَ بعادةٍ
نحكيْ بها قصصًا ونذرفُها مَعَكْ

ما كنتَ منتفضًا ولم تكُ ثائرًا
كيْ تَذْرِفَ العينُ الدموعَ وتنقعَكْ

ما ثُرْتَ كي تغدو رهينةَ دمعةٍ
كي توغِلَ المأساةُ فيكَ وتصنعَكْ

بل أنتَ فعلٌ في المَكَانِ وفي الزما
نِ تدسُّ في كلِّ المواقعِ أذرُعَكْ

لستَ احتكارًا للقطيعِ ولستَ رَجْـ
عًا للأساطيرِ العِجَافِ لتزرعَكْ

هُمْ حَرَّفُوْكَ وأوَّلُوْا بكَ ثورةَ الـ
معنى وأطْفَوا بالبرودةِ أدْمُعَكْ

لم يقنعوا بكَ ثائرًا، قطعوا الصدى
جَعَلُوْكَ مَوَّالًا ونايُكَ أفجَعَكْ!

خَلَقُوا كما شاؤوا حسينًا، لا كما
قد شئتَ أنتَ، فكم حسينٍ ضَيَّعَكْ؟!

لمْ يَرْتَضُوْكَ سوى حسينٍ آخَرٍ
هو عادةٌ أخرى وضَلُّوْا موقِعَكْ!

وعلا منابرَهُمْ حسينُ منابرٍ
قتلَ البطولةَ بالخنوعِ وبَضَّعَكْ

لستَ احتكارًا للدّموعِ وللرثا
ءِ ولستَ مِنْ مَنْ بالنوائحِ أوسَعَكْ

حرًا تجوبُ العالَمِيْنَ قضيةً
حريةً والكونُ يعرفُ إصبعَكْ

يا ثورةً أخرى تُعَاوِدُ نفسها
وتفاجئُ الموتى وتقرأُ مَصْرَعَكْ

عُدْ بالحقيقةِ فالخرافةُ سَوَّرَتْ
أفكارَنا حتى أَضَعْنا مَرْجِعَكْ

هَبْ للقلوبِ بدايةً أخرى ونبـْ
ضًا آخَرًا وانْبُضْ و(عَوْلِمْ) أضلُعَكْ!

وارجِعْ جديدًا فالحكايةُ دبَّ فيـ
ها الشيبُ عُدْ بصداكَ حتى نَسْمَعَكْ

يا أيها الجرحُ الطموحُ أزلْ غبا
رَ المادِحِينَ مِنَ الحروفِ لتُرْجِعَكْ

كُنْ أنتَ، كُنْ معناكَ، واغْسِلْ مِنْ مرا
يانا الخرافةَ، لُحْ وأوقِدْ مَطْلَعَكْ

عُدْ في الخيالِ حقيقةً عُدْ بالحقيـ
ـقَةِ في الخيالِ ولُحْ لنا كي نَطْبَعَكْ

دروب الهوى

طرقت دروب الهوى حيث شدا أصارع في النفس شوقاً ووجدا
وأنشد في الروح معنـى الغـرام فمـازلـت فــي فهـمـه مسـتـجـدا
فـمـذ تـركـونـي لـتـلـك الـقـفـار بقلبي وصبوا على الرمس بُعدا
وزادوا على البعد صرماً وبات سفينـي يخـالـج فــي الـهـم نــدا
وطـالـت ليـالـي الـبـعـاد ولـمّــا يبادرْ صدى الفجر للبحر عودا
طفقـت أسـافـر فــي الظاعنـيـن والـروح تضـرم جــزراً ومــدا
أنـقّــب فـــي بـائــدات الــبــلاد أمـخـر غــوراً وأحـفـر صـلــدا
حنانيـك عـد يـا سفـيـن النـجـاة وزيــن الأزاهــر أمـــاً وجـــدا
أراك تـحـلـق بـيــن المـشـاعـر تـنـثـر حـُبــاً وتـنـشــر ســعــدا
وحتـى أراك بحضـن الـرسـول يـداعـب مـنـك شـفـاهـاً وخـــدا
وتحـبـو فتكـبـو فتحـنـو البـتـول فـــداك بـنــي سـلامــاً وبــــردا
ويـجـثـو عـلــيٌّ ومـــن كـعـلـيّ إذا امتلأت ساحة الحرب أسـدا
إذا أدّ مــــــــدّ وإن نـــــــــدّ ردّ وإن جـــدّ هـــدّ وإن شـــدّ قـــدّا
رأيـتُ حسيـنـاً وحــول الغـمـام نــور وحـــور تجلـبـبـن رنـــدا
وكــانــوا بـسـيـدهـم يـرفـلــون وكنـت علـى لـحـن ذلــك أهــدا
يسيـر ومـن خلفـه المحصـنـات وقدّامـه الـمـوت يـعـزف كــودا
وفي ظـل عـرش الإلـه الأميـنُ يهـز لـه فــي الجناحـيـن مـهـدا
فمـالـك تـمـضـي لأرضٍ فـــلاة ومـنـك الجـنـان تـزيّــنّ رفـــدا
بنفـح نسيـمـك جـبـت السـواقـيَ أقـطـف عـزمـاً وعطـفـاً وقـنـدا
وتحـت جناحـك بـيـن الحمـائـم أرفـــع رأســـاً تـوســد جــهــدا
أسـافـر والطـيـرِ فـيـك ونـشـدو ونجـنـي بــدفء فــؤادك خـلـدا
فـيــا فـلـكـاً دار فـيــه الحـبـيـب وحار اللبيـب ومـا حـاز قصـدا
كــأنــك إذ تـسـتـقـلُّ الـطـريــق ترسـمُ للـحـق صـرحـاً ومـجـدا
شهـابٌ يـذوب عـلـى النـافـلات ليجعـل فـي لاحـب الليـل عهـدا
ويرفـع عـنـا غـشـاء الضـلالـة كيـمـا نـتــوق إلـــى الله رشـــدا
غــــدوتُ بــآلائـــه والـمـحـيــا أطوف على لوحـة النـور عبـدا
أكـبّــر أمــنــاً وأقــــرأ زهــــدا وأركـع شـكـراً وأسـجـد حـمـدا
فمالك تمضـي وتأبـى الرجـوع جعلـتَ علـيـك الأمـاقـيَّ رُمــدا
كـأنـك تــدري بــأن الـوحـوش ستنزو على العهد نصـلاً وحـدا
أكبّـوا الـدهـاق وأبــدوا النـفـاق وردّوا عـهـود النبيـيـن جـحــدا
فصبـرَك إنـي أطلـت الـوقـوف بربعـك فالطـف بطفـلـك يـنـدى
كــأنــي أراك وقــــد ألـجـمَــتْ ثـغـور البسيـطـة خبـثـاً وجـنـدا
كـبـدرٍ أضــاء عـلـى الخافقـيـن وصــاح ببـيـداءَ لـهـبـاءَ فـــردا
رضيعي سيشعـل لـون السمـاء ويُبـقـي نـزيـف المحبّـيـن وِردا
حنانيـك هــلا تـركـت الـتـراب فقـد خلـت خـدك للـرمـل ضــدا
فشـتـان بـيـن صـفـاء الـزهـور وإن كـان رمــلاً تـحـوّل جـلـدا
وشتـان بيـن مـحـول الخـريـف وبــيــن ربــيـــعٍ تـفــتّــح وردا
إلـهـي خلـقـت الحسـيـن كـمـالاً وكـنـت قديـمـاً كريـمـاً جـــواداً
جمـالاً وعطفـاً وجـوداً ومـجـداً وعـزمـاً وحـزمـاً وفـنــاً وقـــدّا
فـإذ لـم ألاقيـه والعمـر يمـضـي فـأرجــو الأمـانــة أن تـسـتـردا
فـلا الـروح تسلـو بهـذا الفـراق ولا القلب يسطيع صبرا وصـدا
فـهــلا أفـضــت عـلــيّ سـبـيـلاً لأمضـي إلـى حيـث ألـقـاه مُــدّا
تلحّف بالصمـت تحـت الهجيـر وفي ظله الصحب شيباً ومُـردا
أطوف على أنجـم فـي الصعيـد أقـبّـل ضـلـعـاً وأجـمــع شـهــدا
تبـرأتُ فـي حبـهـم مــن أنــاس يـصـدّون آيــاً ويـدنــون قـــردا
ومـن عصبـة ينصبـون الدمـار للـحـق بالـغـدر قـتــلاً وطـــردا
وحيّـيـت حـزبــاً أذاق الـطـغـاة مــن فـتـح خيـبـر ذلاً ورعـــدا
فشـتـت جمـعـاً وفـــرج كـربــاً وحـقـق نـصـراً وأنـجـز وعــدا
وعــاد ينـاجـي إمــام الـزمــان ليطلـق خيـل الفتوحـات جــردا
وبـات يصـلـي وتـلـك الـصـلاة تــرفــع ضــــراً وتــنـــزل ودا
صــلاة عـلـى آل بـيـت الـنـبـي خـيــرٌ ثـوابــاً وخـيــرٌ مــــردّا
فصلـوا عليهـم لتـرضـوا الإلــه وتـأتــوه يـــوم القـيـامـة وفـــدا